الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم   أما بعد:

في هذا المبحث اللطيف نتحدث عن ترتيب سور القرآن الكريم هل هو توقيفي (أي من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم) أم اجتهادي (أي من اجتهاد الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم)؟

 

اختلف العلماء في ذلك بين القول بأنه توقيفي لأن عرض القرآن الأخير بين جبريل عليه السلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته على الترتيب الموجود الآن، وبين القول بأنه اجتهادي من جمع عثمان رضي الله عنه.

فعلى القول الأول يجب ترتيب سور القرآن، وعلى القول الثاني يستحب ترتيب سور القرآن.

من قال بأنه اجتهادي استدل بأن ترتيب السور في مصاحف الصحابة يختلف عن بعضه، ورد من قال بأنه توقيفي بأن هذا الاختلاف كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قبل عرض القرآن الأخير بين جبريل عليه السلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته.

 

أقوال العلماء في ذلك:

قال في تفسير القرطبي (1/ 59):

قال ابن الطيب: إن قال قائل قد اختلف السلف في ترتيب سور القرآن، فمنهم من كتب في مصحفه السور على تاريخ نزولها، وقدم المكي على المدني، ومنهم من جعل في أول مصحفه الحمد، ومنهم من جعل في أوله:" اقرأ باسم ربك" وهذا أول مصحف علي رضي الله عنه. وأما مصحف ابن مسعود فإن أوله" مالك يوم الدين" ثم البقرة ثم النساء، على ترتيب مختلف. ومصحف أبي كان أوله: الحمد لله، ثم النساء ثم آل عمران ثم الأنعام ثم الأعراف ثم المائدة، ثم كذلك على اختلاف شديد. قال القاضي أبو بكر بن الطيب: فالجواب أنه يحتمل أن يكون ترتيب السور على ما هي عليه اليوم في المصحف كان على وجه الاجتهاد من الصحابة. وذكر ذلك مكي رحمه الله في تفسير سورة" براءة" ......... وقال قوم من أهل العلم: إن تأليف سور القرآن على ما هو عليه في مصاحفنا كان عن توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم، وأما ما روي من اختلاف مصحف أبي وعلي وعبد الله فإنما كان قبل العرض الأخير، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رتب لهم تأليف السور بعد أن لم يكن فعل ذلك. روى يونس عن ابن وهب قال سمعت مالكا يقول: إنما ألف القرآن على ما كانوا يسمعونه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذكر أبو بكر الأنباري في كتاب الرد: أن الله تعالى أنزل القرآن جملة إلى سماء الدنيا، ثم فرق على النبي صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة، وكانت السورة تنزل في أمر يحدث، والآية جوابا لمستخبر يسأل، ويوقف جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم على موضع السورة والآية، فاتساق السور كاتساق الآيات والحروف، فكله عن محمد خاتم النبيين عليه السلام، عن رب العالمين، فمن أخر سورة مقدمة أو قدم أخرى مؤخرة فهو كمن أفسد نظم الآيات، وغير الحروف والكلمات، ولا حجة على أهل الحق في تقديم البقرة على الأنعام، والأنعام نزلت قبل البقرة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ عنه هذا الترتيب، وهو كان يقول:" ضعوا هذه السورة موضع كذا وكذا من القرآن".......... قال أبو الحسن بن بطال: ومن قال بهذا القول لا يقول إن تلاوة القرآن في الصلاة والدرس يجب أن تكون مرتبة على حسب الترتيب الموقف عليه في المصحف، بل إنما يجب تأليف سوره في الرسم والخط خاصة، ولا يعلم أن أحدا منهم قال: إن ترتيب ذلك واجب في الصلاة وفي قراءة القرآن ودرسه، وأنه لا يحل لأحد أن يتلقن الكهف قبل البقرة ولا الحج قبل الكهف، ألا ترى قول عائشة رضي الله عنها للذي سألها: لا يضرك أية قرأت قبل، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصلاة السورة في ركعة، ثم يقرأ في ركعة أخرى بغير السورة التي تليها. وأما ما روي عن ابن مسعود وابن عمر أنهما كرها أن يقرأ في القرآن منكوسا، وقالا: ذلك منكوس القلب، فإنما عنيا بذلك من يقرأ السورة منكوسة، ويبتدئ من آخرها إلى أولها لأن ذلك حرام محظور، ومن الناس من يتعاطى هذا في القرآن والشعر ليذلل لسانه بذلك ويقدر على الحفظ، وهذا حظره الله تعالى ومنعه في القرآن، لأنه إفساد لسوره ومخالفة لما قصد بها. ومما يدل على أنه لا يجب إثباته في المصاحف على تاريخ نزوله ما صح وثبت أن الآيات كانت تنزل بالمدينة فتوضع في السورة المكية، ألا ترى قول عائشة رضى الله عنه: وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده تعني بالمدينة وقد قدمتا في المصحف على ما نزل قبلهما من القرآن بمكة، ولو ألفوه على تاريخ النزول لوجب أن ينتقض ترتيب آيات السور.

 

قال في تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 29):

أما ترتيب السور فمستحب اقتداء بعثمان، رضي الله عنه، والأولى إذا قرأ أن يقرأ متواليا كما قرأ، عليه الصلاة والسلام، في صلاة الجمعة بسورة الجمعة والمنافقين وتارة بسبح وهل أتاك حديث الغاشية، فإن فرق جاز، كما صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في العيد بقاف واقتربت الساعة، رواه مسلم عن أبي واقد في الصحيحين عن أبي هريرة، رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة: الم السجدة، وهل أتى على الإنسان.

وإن قدم بعض السور على بعض جاز أيضا، فقد روى حذيفة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ البقرة ثم النساء ثم آل عمران. أخرجه مسلم.

 

قال في تفسير ابن عطية (1/ 49):

قال القاضي أبو بكر بن الطيب: وترتيب السور اليوم هو من تلقاء زيد ومن كان معه مع مشاركة من عثمان رضي الله عنه في ذلك وقد ذكر ذلك مكي رحمه الله في تفسير سورة «براءة».

 

هذا والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.