الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أما بعد:
في هذا المبحث اللطيف نتحدث عن ترتيب آيات القرآن الكريم هل هو توقيفي (أي من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم) أم اجتهادي (أي من اجتهاد الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم)؟
قال الترمذي في سننه والإمام أحمد في مسنده:
عن ابن عباس، قال: قلت لعثمان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم، فوضعتموها في السبع الطول، فما حملكم على ذلك؟
قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه من السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من يكتب له، فيقول: " ضعوا هذه في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا "، وإذا أنزلت عليه الآيات، قال: " ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا "، وإذا أنزلت عليه الآية، قال: " ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا "، قال: وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر ما أنزل من القرآن، قال: فكانت قصتها شبيها بقصتها، فظننا أنها منها، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطرا: بسم الله الرحمن الرحيم، ووضعتها في السبع الطول.
ذكر السيوطي الإجماع على أن ترتيب الآيات توقيفي.
فقد قال في الإتقان في علوم القرآن (1/ 211):
الإجماع والنصوص المترادفة على أن ترتيب الآيات توقيفي لا شبهة في ذلك، وأما الإجماع فنقله غير واحد، منهم الزركشي في البرهان، وأبو جعفر بن الزبير في مناسباته وعبارته: ترتيب الآيات في سورها واقع بتوقيفه صلى الله عليه وسلم. وأمره من غير خلاف في هذا بين المسلمين. انتهى.
فبذلك نعلم أن ترتيب الآيات في داخل سور القرآن الكريم أمر توقيفي.
وسنذكر أقوال بعض المفسرين في هذه المسألة، لتتضح الصورة.
قال في تفسير القرطبي (1/ 59):
ترتيب الآيات في السور ووضع البسملة في الأوائل هو من النبي صلى الله عليه وسلم، ولما لم يأمر بذلك في أول سورة" براءة" تركت بلا بسملة، هذا أصح ما قيل في ذلك....... وكان جبريل عليه السلام يقف على مكان الآيات. حدثنا حسن بن الحباب حدثنا أبو هشام حدثنا أبو بكر عياش عن أبي إسحاق عن البراء قال: آخر ما نزل من القرآن:" يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ". عن ابن عباس قال: آخر ما نزل من القرآن:" واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون".
فقال جبرئيل للنبي عليهما السلام: يا محمد ضعها في رأس ثمانين ومائتين من البقرة..... وكان عثمان -والله أعلم-رتب السور في المصحف، وقدم السبع الطوال وثنى بالمئين؛ ولهذا روى ابن جرير وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث غير واحد من الأئمة الكبار، عن عوف الأعرابي، عن يزيد الفارسي، عن ابن عباس قال: قلت لعثمان بن عفان: ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينها ولم تكتبوا بينها سطر "بسم الله الرحمن الرحيم"، ووضعتموها في السبع الطوال؟ ما حملكم على ذلك؟ فقال عثمان: كان رسول الله مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول: ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، فإذا أنزلت عليه الآية فيقول: ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أول ما نزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر القرآن، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، وحسبت أنها منها وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر "بسم الله الرحمن الرحيم" فوضعتها في السبع الطوال.
ففهم من هذا الحديث أن ترتيب الآيات في السور أمر توقيفي متلقى عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال في تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 48):
ترتيب الآيات في السور فليس في ذلك رخصة، بل هو أمر توقيفي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما تقدم تقرير ذلك؛ ولهذا لم ترخص له في ذلك، بل أخرجت له مصحفها، فأملت عليه آي السور، والله أعلم.
قال في تفسير ابن عطية (1/ 49):
ترتيب الآيات في السور ووضع البسملة في الأوائل هو من النبي صلى الله عليه وسلم، ولما لم يأمر بذلك في أول براءة تركت بلا بسملة.
هذا أحد ما قيل في براءة ...... وظاهر الآثار أن السبع الطول والحواميم والمفصل كان مرتبا في زمن النبي عليه السلام، وكان في السور ما لم يرتب، فذلك هو الذي رتب وقت الكتب.
قال الزركشي في البرهان في علوم القرآن (1/ 256):
وأما ما يتعلق بترتيبه فأما الآيات في كل سورة وضع البسملة أوائلها فترتيبها توقيفي بلا شك، ولا خلاف فيه ولهذا لا يجوز تعكيسها.
قال مكي وغيره: ترتيب الآيات في السور هو من النبي صلى الله عليه وسلم، ولما لم يأمر بذلك في أول براءة تركت بلا بسملة.
وقال القاضي أبو بكر: ترتيب الآيات أمر واجب وحكم لازم، فقد كان جبريل يقول ضعوا آية كذا في موضع كذا.
هذا والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.