خطبة عن الموت والاستعداد له
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً.
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون).
(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا).
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيماً).
أما بعد:
أيها المسلمون أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل وتمسكوا بالعروة الوثقى.
قال تعالى:
كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور.
فلن يبقى أحد بلا موت بل الجميع سوف يموتون، ولكن المشكلة فيما هو بعد الموت، هل هو البعد عن النار، ودخول الجنة والفوز بها، أم لا؟
ومهما حاول انسان الهرب من الموت ولو كان بين حرسه وفي حصونه المشيدة، فالموت بلا شك سيأخذه لدار البرزخ.
قال تعالى:
أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة.
وإن كان هناك من يستحق أن يسلم من الموت، لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المستحق لذلك، بل الجميع يموتون.
قال تعالى:
وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون (34) كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون.
وقال أيضا:
إنك ميت وإنهم ميتون.
ولا يستطيع أحد أن يعلم أين مكان وزمان موته، هل سوف يموت وهو في مكان يفرح بقبض روحه فيه، أم في مكان لا يريد أن يعرف أحد أنه ذهب إليه.
قال تعالى:
إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير.
وقال تعالى:
وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد.
قال الجرجاني: الموت: صفة وجودية خلقت ضدا للحياة.
وليس من الذكاء نسيان الموت، لأنه أمر واقع لامحالة، بل يجب تذكره دائما والاستعداد له.
عن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال:
أتيت النبي صلى الله عليه وسلم عاشر عشرة، فقام رجل من الأنصار، فقال: يا نبي الله، من أكيس الناس وأحزم الناس؟
قال: «أكثرهم ذكرا للموت، وأكثرهم استعدادا للموت، أولئك الأكياس ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الاخرة».
وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استكثروا ذكر هاذم اللذات فإنه ما ذكره أحد في ضيق إلا وسعة ولا ذكره في سعة إلا ضيقها عليه».
وعن أنس- رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أكثروا من ذكر هاذم اللذات، الموت.
وعلى الإنسان أن يحسن الظن بالله دائما، وخاصة إذا أحس يقرب أجله.
عن جابر- رضي الله عنه- قال:
سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بثلاث، يقول: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن بالله الظن».
وإذا كان أحدكم يشهد موت انسان فليذكره بقول لا إله إلا الله.
فعن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقنوا موتاكم: لا إله إلا الله».
عن أبي ذر- رضي الله عنه- قال:
أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثوب أبيض وهو نائم، ثم أتيته وقد استيقظ، فقال: «ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة» . قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: «وإن زنى وإن سرق» قلت:
وإن زنى وإن سرق؟. قال: «وإن زنى وإن سرق» .
قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: «وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر» . وكان أبو ذر إذا حدث بهذا قال: وإن رغم أنف أبي ذر. قال أبو عبد الله: هذا عند الموت أو قبله إذا تاب وندم، وقال: لا إله إلا الله، غفر له.
وعلى الانسان الإكثار من ذكر الموت، وترك ملاهي الدنيا الزائفة.
فعن سهل بن سعد الساعدي- رضي الله عنه- قال: مات رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فجعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يثنون عليه، ويذكرون من عبادته ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت، فلما سكتوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل كان يكثر ذكر الموت؟» قالوا: لا. قال: «فهل كان يدع كثيرا مما يشتهي؟» قالوا: لا. قال: «ما بلغ صاحبكم كثيرا مما تذهبون إليه».
واعلم عبد الله بأن لن يبقى معك بعد الموت إلا عملك، وسيذهب الأهل والمال بحلول الموت، بل ويسرعون بدفنك ويتسابقون بحثو التراب علة قبرك ليدركوا الأجر.
عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يتبع الميت ثلاثة، فيرجع اثنان ويبقى معه واحد، يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله».
ولابد أن تكون دائما تتذكر الرحيل من هذه الدنيا.
عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» . وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك.
ويستحب على الإنسان أن يكتب وصيته إذا لم يكن عليه واجبات وحقوق للناس، أما إن كان عليه واجبات وحقوق وديون للناس فيجب كتابتها لورثته.
عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما حق امرىء مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده»
ودائما حاول أن تكون مستريح من تعب الدنيا، وليس مستراح منه.
عن أبي قتادة- رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر عليه بجنازة، فقال: «مستريح أو مستراح منه»، فقالوا: يا رسول الله، ما المستريح وما المستراح منه؟. فقال: «العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا، والعبد الفاجر: يستريح منه العباد والبلاد، والشجر والدواب».
وسارع بالأعمال الصالحة قبل الوفاة، وليس إذا كنت على فراش الموت توصي بصدقة عنك، لأن مالك بعد الموت ليس لك بل لورثتك، ولا يجوز أن توصي بما زيد عن ثلث المال ويعتبر كثير لأن المال صار للورثة.
عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال:
قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، أي الصدقة أفضل؟
قال: «أن تصدق وأنت صحيح حريص، تأمل الغنى وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم». قلت: لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان.
وقد تفكر عمر بن عبد العزيز بدارنا بعد الموت، ووصف هذه الدار بكلمات كانه يراها في الدنيا.
فعن أبي سريج الشامي؛ قال: قال عمر ابن عبد العزيز لرجل من جلسائه: «يا فلان، قد أرقت الليل متفكرا» قال: فيم يا أمير المؤمنين؟ قال: «في القبر وساكنه، لو رأيت الميت بعد ثالثة في القبر لاستوحشت من قربه بعد طول الأنس منك بناحيته، ولرأيت بيتا تجول فيه الهوام، ويجري فيه الصديد وتخترقه الديدان مع تغير الرائحة وبلى الأكفان بعد حسن الهيئة وطيب الرائحة ونقاء الثوب» قال: ثم شهق شهقة خر مغشيا.
ولقد قال ابن الجوزي: الواجب على العاقل أخذ العدة لرحيله؛ فإنه لا يعلم متى يفجؤه أمر ربه، ولا يدري متى يستدعى؟
وإني رأيت خلقا كثيرا غرهم الشباب ونسوا فقدان الأقران، وألهاهم طول الأمل.
وربما قال العالم المحض لنفسه: أشتغل بالعلم اليوم ثم أعمل به غدا، فيتساهل في الزلل بحجة الراحة، ويؤخر الأهبة لتحقيق التوبة ولا يتحاشى من غيبة أو سماعها، ومن كسب شبهة يأمل أن يمحوها بالورع.
وينسى أن الموت قد يبغته. فالعاقل من أعطى كل لحظة حقها من الواجب عليه. فإن بغته الموت رئي سعيدا، وإن نال الأمل ازداد خيرا.
وقال أيضا: إذا علم الإنسان بأن الموت يقطعه عن العمل، عمل في حياته ما يدوم له أجره بعد موته.
فإن كان له شيء من الدنيا وقف وقفا وغرس غرسا وأجرى نهرا، ويسعى في تحصيل ذرية تذكر الله بعده فيكون الأجر له، أو أن يصنف كتابا من العلم؛ فإن تصنيف العالم ولده المخلد. وأن يكون عاملا بالخير عالما فيه فينقل من فعله ما يقتدي الغير به فذلك الذي لم يمت.
ولتذكر الموت فوائد على الانسان، منها:
(1) تذكر الموت يجعل المسلم يعطي كل لحظة حقها العمل الصالح، ويبتعد عن المعاصي.
(2) ويسع المسلم للبحث عن الصدقات الجارية التي يدوم أجرها بعد وفاته.
(3) أعقل الناس أكثرهم استعدادا للموت.
(4) موت المسلم وغسله وتكفينه والصلاة عليه وحمله إلى المقابر ودفنه كلها مظاهر تذكير وإنذار لكل أحد بأن هذا مصيره ولا يأخذ معه إلا ما قدم من خير أو شر.
ألا وصلوا عباد الله على خير الصادقين المخلصين، وإمام الحنفاء المخلصين، كما أمركم بذلك رب العالمين بقوله: (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا).
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد أزكى البرية أجمعين، وخليل رب العالمين، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، الأئمة المهديين الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعملون، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وانصر عبادك المؤمنين، واحم حوزة الدين يا رب العالمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، واحفظ أئمتنا وولاة أمورنا، ووفقهم لهداك، واجعل عملهم في رضاك يا رب العالمين. اللهم احفظ إمامنا بحفظك وأيده بتأييدك وأعز به دينك ياذا الجلال والإكرام.
اللهم وفق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وسنة نبيك يا رب العالمين.
اللهم وأبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة، ويذل فيه أهل المعصية، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء.
اللهم ادفع عنا الغلا والوبا والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلادنا وعن سائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك، المضطهدين في دينهم في كل مكان، اللهم كن لهم عونًا وظهيرًا، وهيئ لهم من لدنك وليًا ونصيرًا. اللهم عليك بأعدائهم، فإنهم لا يعجزونك، اللهم اقذف الرعب في قلوبهم، وفرق جمعهم، وشتت شملهم، وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكَرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين. (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم)، (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين). (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار).
عباد الله: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً إن الله يعلم ما تفعلون). فاذكروا الله الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم (ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون).