خطبة عن الورع
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً.
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون).
(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا).
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيماً).
أما بعد:
أيها المسلمون أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل وتمسكوا بالعروة الوثقى.
قال تعالى في حادثة الإفك:
وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم.
والآية تدل على كف اللسان عن الكلام بدون معرفة صدقه من كذبه، وأن ذلك عظيما عند الله.
وهذا يدل على أهمية الورع، وأنه صفة من صفات المؤمنين.
قال تعالى:
يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم.
أي كلوا من الحلال، الطيب، مترك الحرام وما قرب منه، وهذا من الورع.
قال المناوي: الورع ترك ما يريبك، ونفي ما يعيبك، والأخذ بالأوثق، وحمل النفس على الأشق.
وقيل هو: النظر في المطعم واللباس، وترك ما به بأس، وقيل: تجنب الشبهات، ومراقبة الخطرات.
وقال الكفوي:
الورع: الاجتناب عن الشبهات سواء كان تحصيلا أو غير تحصيل؛ إذ قد يفعل المرء فعلا تورعا، وقد يتركه تورعا أيضا، ويستعمل بمعنى التقوى، وهو الكف عن المحرمات القطعية.
وللورع مراتب ودرجات:
فقد قسم الراغب الأصفهاني الورع إلى ثلاث مراتب:
1- واجب: وهو الإحجام عن المحارم، وذلك للناس كافة.
2- مندوب: وهو الوقوف عن الشبهات، وذلك للأواسط.
3- فضيلة: وهو الكف عن كثير من المباحات والاقتصار على أقل الضرورات، وذلك للنبيين والصديقين والشهداء والصالحينز
وقال الشيخ أبو إسماعيل الهروي- رحمه الله تعالى-: الورع على ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: تجنب القبائح لصدق النفس، وتوفير الحسنات وصيانة الإيمان.
الدرجة الثانية: حفظ الحدود عند ما لا بأس به، إبقاء على الصيانة، والتقوى، وصعودا عن الدناءة، وتخلصا عن اقتحام الحدود.
الدرجة الثالثة: التورع عن كل داعية تدعو إلى شتات الوقت والتعلق بالتفرق.
وقد حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على الورع.
فعن حذيفة بن اليمان- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فضل العلم خير من فضل العبادة، وخير دينكم الورع».
وقد عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم الورع بجوامع الكلم، كما في حديث وابصة بن معبد صاحب النبي صلى الله عليه وسلم قال: جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله عن البر والإثم فقال: «جئت تسأل عن البر والإثم» فقلت:
والذي بعثك بالحق ما جئتك أسألك عن غيره، فقال:
«البر ما انشرح له صدرك، والإثم ما حاك في صدرك وإن أفتاك عنه الناس»
وعن الحسن بن علي- رضي الله عنهما- قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة»
عن النواس بن سمعان الأنصاري رضي الله عنه- قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم؟ فقال: «البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس»
ولقد وضح رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ليس لك إلا ما رزقك الله فلا تطلب الحرام.
فعن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس، اتقوا الله وأجملوا في الطلب، فإن نفسا لن تموت حتى تستوفي رزقها، وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حل، ودعوا ما حرم»
وعن أبي قتادة وأبي الدهماء- رضي الله عنهما- قالا: أتينا على رجل من أهل البادية فقلنا: هل سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا؟ قال: نعم. سمعته يقول: «إنك لن تدع شيئا لله- عز وجل- إلا أبدلك الله به ما هو خير لك منه» وفي رواية: أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يعلمني مما علمه الله- تبارك وتعالى- وقال: «إنك لن تدع شيئا اتقاء لله- عز وجل- إلا أعطاك الله خيرا منه»
ولقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قصة بين رجلين تدل على الورع.
عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اشترى رجل من رجل عقارا له، فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب. فقال له الذي اشترى العقار: خذ ذهبك مني، إنما اشتريت منك الأرض ولم أبتع منك الذهب. وقال الذي له الأرض: إنما بعتك الأرض وما فيها، فتحاكما إلى رجل، فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولد؟ قال:
أحدهما: لي غلام. وقال الآخر: لي جارية. قال:
أنكحوا الغلام الجارية، وأنفقوا على أنفسهما منه، وتصدقا».
وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهمية الورع للبعد عن الحرام.
فعن النعمان بن بشير- رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الحلال بين، والحرام بين، وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى المشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا إن حمى الله في أرضه محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب».
وللوصل إلى درجة المتقين لابد من صفة الورع.
فعن عطية السعدي- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا لما به البأس»
من صور ورع رسول الله صلى الله عليه وسلم تركه أكل تمرة ساقطة لخوفه أن تكون من تمر الصدقة، لأن الصدقة محرمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله.
عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي ثم أرفعها لآكلها، ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها»
ومن صور ورع أبي بكر الصديق رضي الله عنه حديث عائشة- رضي الله عنها- قالت:
كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يوما بشيء فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: أتدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية، وما أحسن الكهانة إلا أني خدعته، فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلت منه. فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه»
من أقوال السلف عن الورع:
قال الحسن البصري- رحمه الله تعالى-:
«أفضل العلم الورع والتوكل».
قال الشافعي- رحمه الله تعالى-:
«زينة العلم الورع والحلم».
قال سفيان الثوري- رحمه الله تعالى-: عليك بالورع يخفف الله حسابك، ودع ما يريبك إلى ما لا يريبك، وادفع الشك باليقين يسلم لك دينك»
قال حبيب- يعني ابن أبي ثابت رحمه الله تعالى-: «لا يعجبكم كثرة صلاة امرىء ولا صيامه، ولكن انظروا إلى ورعه، فإن كان ورعا مع ما رزقه الله من العبادة فهو عبد لله حقا»
من فوائد (الورع):
(1) الورع من درجات الإحسان.
(2) البعد عن الحرام ويصل للبعد عن المكروه كذلك.
(3) من يتصف بصفة الورع تده محبوبا عند ربه وعند الناس.
(4) الورع يستجاب دعاؤه.
ألا وصلوا عباد الله على خير الصادقين المخلصين، وإمام الحنفاء المخلصين، كما أمركم بذلك رب العالمين بقوله: (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا).
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد أزكى البرية أجمعين، وخليل رب العالمين، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، الأئمة المهديين الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعملون، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وانصر عبادك المؤمنين، واحم حوزة الدين يا رب العالمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، واحفظ أئمتنا وولاة أمورنا، ووفقهم لهداك، واجعل عملهم في رضاك يا رب العالمين. اللهم احفظ إمامنا بحفظك وأيده بتأييدك وأعز به دينك ياذا الجلال والإكرام.
اللهم وفق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وسنة نبيك يا رب العالمين.
اللهم وأبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة، ويذل فيه أهل المعصية، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء.
اللهم ادفع عنا الغلا والوبا والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلادنا وعن سائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك، المضطهدين في دينهم في كل مكان، اللهم كن لهم عونًا وظهيرًا، وهيئ لهم من لدنك وليًا ونصيرًا. اللهم عليك بأعدائهم، فإنهم لا يعجزونك، اللهم اقذف الرعب في قلوبهم، وفرق جمعهم، وشتت شملهم، وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكَرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين. (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم)، (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين). (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار).
عباد الله: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً إن الله يعلم ما تفعلون). فاذكروا الله الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم (ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون).