خطبة عن بر الوالدين
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً.
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون).
(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا).
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيماً).
أما بعد:
أيها المسلمون أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل وتمسكوا بالعروة الوثقى.
قال تعالى في كتابه العزيز عن أمره لبني إسرائيل بعدة أوامر ومنها بر الوالدين:
وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون.
وقال كذلك:
واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا.
وقال عز من قائل:
قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون.
وأمر بالإحسان إلى الوالدين، وذكر الله حالة الكبر؛ لأنها الحالة التي يحتاجان فيها إلى البر لتغير الحال عليهما بالضعف والكبر، فألزم في هذه الحالة مراعاة أحوالهما أكثر مما ألزمها من قبل؛ لأنهما يحتاجان منه ما كان هو يحتاجه منهما في صغره من رعاية ونحوها.
ومن برهما والإحسان إليهما أن لا يقول لهما كلمة (أف) وهي كناية على أقل تبرم منه عليهما.
قال تعالى:
وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما
ووصيته للإنسان بمصاحبتهما بالمعروف في هذه الدنيا ويطيعهما إلا في معصية الله، إذا أمرا أو أحدهما ولدهما بأمر وجبت طاعتهما فيه، إذا لم يكن ذلك الأمر معصية، وإن كان ذلك المأمور به من قبيل المندوب.
قال تعالى:
ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير @ وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون.
وقال:
ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين @ أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون.
والبر ضد العقوق إذا أضيف إلى الوالدين أو ذي القرابة.
ومعنى البر هو الإحسان إلى الوالدين والتعطف عليهما والرفق بهما والرعاية لأحوالهما وعدم الإساءة إليهما، وإكرام صديقهما من بعدهما.
وقد أمر الله بعبادته وتوحيده، وجعل بر الوالدين مقرونا بذلك، كما قرن شكرهما بشكره، فقال: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا، وقال: أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير.
وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بر الوالدين أفضل الأعمال بعد الصلاة التي هي أعظم دعائم الإسلام.
عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: «أمك» قال: ثم من؟ قال: ثم أمك، قال: ثم من؟ قال: ثم أمك، قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك.
وبر الوالدين متساو عند بعض الفقهاء الشافعية، والمالكية، وبعض الفقهاء يرجح الأم على الأب، ومنهم الليث بن سعد والمحاسبي في كتابه (الرعاية) .
ومن بر الوالدين أن يتلطف معهما بقول لين لطيف، وأن يجعل نفسه مع أبويه في خير ذلة، في أقواله، وأعماله.
ومن برهما الترحم عليهما والدعاء لهما، وأن ترحمهما كما رحماك، وترفق بهما كما رفقا بك، فاثراك على أنفسهما وأسهرا ليلهما، وجاعا وأشبعاك، وتعريا وكسواك، فلا تجزهما إلا ببرهما وطاعتهما وحين يبلغان من الكبر الحد الذي كنت فيه من الصغر، فعليك أن تلي منهما ما وليا منك.
وقد جعل رسول الله صلى عليه وسلم بر الوالدين من أحب الأعمال إلى الله بعد الصلاة على وقتها وقبل الجهاد في سبيل الله.
فقد قال عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله عز وجل؟ قال: «الصلاة على وقتها» . قال: ثم أي؟
قال: «بر الوالدين» . قال: ثم أي؟ قال: «الجهاد في سبيل الله».
وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مراعاتهما على الجهاد في سبيله فقد قال أنس- رضي الله عنه- قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أشتهي الجهاد ولا أقدر عليه. قال: هل بقي من والديك أحد؟ قال:
أمي. قال: «قابل الله في برها فإذا فعلت ذلك فأنت حاج ومعتمر ومجاهد، فإذا رضيت عنك فاتق وبرها».
وعن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
يا رسول الله إني جئت أريد الجهاد معك أبتغي وجه الله والدار الاخرة ولقد أتيت وإن والدي ليبكيان، قال: «فارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما».
وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم من بر آباءه بره أبناؤه والجزاء من جنس العمل.
فعن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بروا آباءكم تبركم أبناؤكم، وعفوا تعف نساؤكم».
وعندما سئل صلى الله عليه وسلم عن برهما بعد مماتهما قال كما في حديث أبي أسيد الساعدي- رضي الله عنه- قال: فيما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله، هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: «نعم، الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما».
وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بر الخالة بعد وفاة الأم وجعله كفارة لذنب عظيم.
فعن ابن عمر- رضي الله عنهما- أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني أصبت ذنبا عظيما فهل لي توبة؟ قال: «هل لك من أم؟» قال:
لا. قال: «هل لك من خالة؟» قال: نعم.
قال: «فبرها».
وقد ربط رسول الله صلى الله عليه وسلم رضا وسخط الله تعالى برضا وسخط الوالدين:
فعن عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رضا الرب في رضا الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد».
ومن فوائد بر الوالدين الزيادة في العمر.
فعن سهل بن معاذ- رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من بر والديه طوبى له زاد الله في عمره».
قال ابن عباس رضي الله عنهما إني لا أعلم عملا أقرب إلى الله عز وجل من بر الوالدة».
وقال أبو موسى الأشعري- رضي الله عنه- شهد ابن عمر- رضي الله عنهما- رجلا يمانيا يطوف بالبيت حمل أمه وراء ظهره يقول:
إني لها بعيرها المذلل ... إن أذعرت ركابها لم أذعر
ثم قال: يا ابن عمر أتراني جزيتها قال: «لا، ولا بزفرة واحدة».
ألا وصلوا عباد الله على خير الصادقين المخلصين، وإمام الحنفاء المخلصين، كما أمركم بذلك رب العالمين بقوله: (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا).
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد أزكى البرية أجمعين، وخليل رب العالمين، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، الأئمة المهديين الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعملون، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وانصر عبادك المؤمنين، واحم حوزة الدين يا رب العالمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، واحفظ أئمتنا وولاة أمورنا، ووفقهم لهداك، واجعل عملهم في رضاك يا رب العالمين. اللهم احفظ إمامنا بحفظك وأيده بتأييدك وأعز به دينك ياذا الجلال والإكرام.
اللهم وفق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وسنة نبيك يا رب العالمين.
اللهم وأبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة، ويذل فيه أهل المعصية، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء.
اللهم ادفع عنا الغلا والوبا والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلادنا وعن سائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك، المضطهدين في دينهم في كل مكان، اللهم كن لهم عونًا وظهيرًا، وهيئ لهم من لدنك وليًا ونصيرًا. اللهم عليك بأعدائهم، فإنهم لا يعجزونك، اللهم اقذف الرعب في قلوبهم، وفرق جمعهم، وشتت شملهم، وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكَرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين. (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم)، (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين). (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار).
عباد الله: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً إن الله يعلم ما تفعلون). فاذكروا الله الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم (ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون).