الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد:
من طرق التفسير المختلف فيها تفسير القرآن بالرأي، هل يجوز أم لا يجوز.
وسنذكر هنا المسألة بوجه مختصر، وخلاصة للمسألة لتُفهم وتُعرف.
قال ابن كثير في تفسيره (1/ 10):
أما تفسير القرآن بمجرد الرأي فحرام، لما رواه محمد بن جرير، رحمه الله، حيث قال: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا سفيان، حدثني عبد الأعلى، هو ابن عامر الثعلبي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من قال في القرآن برأيه، أو بما لا يعلم، فليتبوأ مقعده من النار ".
وهكذا أخرجه الترمذي والنسائي، من طرق، عن سفيان الثوري، به. ورواه أبو داود، عن مسدد، عن أبي عوانة، عن عبد الأعلى، وقال الترمذي: هذا حديث حسن.
وفي لفظ لهم: "من قال في كتاب الله برأيه، فأصاب، فقد أخطأ" أي: لأنه قد تكلف ما لا علم له به، وسلك غير ما أمر به، فلو أنه أصاب المعنى في نفس الأمر لكان قد أخطأ؛ لأنه لم يأت الأمر من بابه، كمن حكم بين الناس على جهل فهو في النار، وإن وافق حكمه الصواب في نفس الأمر، لكن يكون أخف جرما ممن أخطأ، والله أعلم، وهكذا سمى الله القذفة كاذبين، فقال: {فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون} [النور: 13] ، فالقاذف كاذب، ولو كان قد قذف من زنى في نفس الأمر؛ لأنه أخبر بما لا يحل له الإخبار به، ولو كان أخبر بما يعلم؛ لأنه تكلف ما لا علم له به، والله أعلم.
ولهذا تحرج جماعة من السلف عن تفسير ما لا علم لهم به، كما روى شعبة، عن سليمان، عن عبد الله بن مرة، عن أبي معمر، قال: قال أبو بكر الصديق، رضي الله عنه: أي أرض تقلني وأي سماء تظلني؟ إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم.
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: حدثنا محمد بن يزيد، عن العوام بن حوشب، عن إبراهيم التيمي؛ أن أبا بكر الصديق سئل عن قوله: {وفاكهة وأبا} [عبس: 31]، فقال: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني؟ إذا أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم.
قال في البرهان في علوم القرآن (2/ 161):
لا يجوز تفسير القرآن بمجرد الرأي والاجتهاد من غير أصل لقوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} وقوله: {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} وقوله: {لتبين للناس ما نزل إليهم} فأضاف البيان إليهم
وعليه حملوا قوله صلى الله عليه وسلم: "من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار" رواه البيهقي من طرق من حديث ابن عباس وقوله صلى الله عليه وسلم: "من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ" أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وقال: غريب من حديث ابن جندب
وقال البيهقي في شعب الإيمان: هذا إن صح فإنما أراد -والله أعلم- الرأي الذي يغلب من غير دليل قام عليه فمثل هذا الذي لا يجوز الحكم به في النوازل وكذلك لا يجوز تفسير القرآن به.
وأما الرأي الذي يسنده برهان فالحكم به في النوازل جائز وهذا معنى قول الصديق: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيي
وقال في المدخل: في هذا الحديث نظر وإن صح فإنما أراد -والله أعلم- فقد أخطأ الطريق فسبيله أن يرجع في تفسير ألفاظه إلى أهل اللغة وفي معرفة ناسخه ومنسوخه وسبب نزوله وما يحتاج فيه إلى بيانه إلى أخبار الصحابة الذين شاهدوا تنزيله وأدوا إلينا من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يكون تبيانا لكتاب الله قال الله تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون}
فما ورد بيانه عن صاحب الشرع ففيه كفاية عن ذكره من بعده وما لم يرد عنه بيان ففيه حينئذ فكرة أهل العلم بعده ليستدلوا بما ورد بيانه على ما لم يرد.
قال: وقد يكون المراد به من قال فيه برأيه من غير معرفة منه بأصول العلم وفروعه فتكون موافقته للصواب وإن وافقه من حيث لا يعرفه غير محمودة
وقال الإمام أبو الحسن الماوردي في نكته: قد حمل بعض المتورعة هذا الحديث على ظاهره وامتنع من أن يستنبط معاني القرآن باجتهاده ولو صحبتها الشواهد ولم يعارض شواهدها نص صريح وهذا عدول عما تعبدنا من معرفته من النظر في القرآن واستنباط الأحكام منه كما قال تعالى: {لعلمه الذين يستنبطونه منهم}.
قال في الإتقان في علوم القرآن (4/ 210):
ولا يجوز تفسير القرآن بمجرد الرأي والاجتهاد من غير أصل، قال تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم}، وقال: {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}، وقال: {لتبين للناس ما نزل إليهم}
فأضاف البيان إليه وقال صلى الله عليه وسلم: "من تكلم في القرآن برأيه، فأصاب فقد أخطأ"، أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وقال: "من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار" أخرجه أبو داود.
ورد المجيزون بتفسير القرآن بالرأي باقول، وسأذكر ملخص قولهم وهو:
أن النهي محمول على من قال برأيه فيما لا يعلم إلا عن طريق النقل.
ويقصدون بالرأي الرأي الذي يغلب على صاحبه من غير دليل يقوم عليه، أوم من يتبع هواه أو جهله.
وهم يستدلون على جواز التفسير بالرأي بما يأتي:
أولا: بنصوص في القرآن منها افلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها.
ثانيا: لو كان التفسير بالرأي غير جائز لما كان الاجتهاد جائزا.
ثالثاً: استدلوا بدعاء النبي- صلى الله عليه وسلم- لابن عباس «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل». فلو كان التأويل مقصورا على السماع والنقل لما كانت فائدة في تخصيص ابن عباس بهذا الدعاء.
فالخلاصة في أن حكم تفسير القرآن بالرأي يجوز لمن عنده الآلة المعتمدة عند العلماء وله أصل وبرهان استند إليه في تفسيره وخاصة في أحكام النوازل التي لم تكن في عهد الصحابة والتابعين.
هذا والله أعلم وصلى الله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً