تقويم من طاش في حكم المسح على جورب القماش
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أما بعد:
فمن المسائل التي كثر فيها الجدال والاختلاف بين المتقدمين والمعاصرين، وكثرة حاجة الناس إلى معرفة حكمها وخاصة في أوقات شدة البرد التي يحتاج الإنسان لها، هي مسألة حكم المسح في الوضوء على الجوار الموجودة في عصرنا الحديث .
وإننا نذكر هذه المسألة بحسب ما اتضح لنا من أقوال المذاهب الفقهية الأربعة ونسأل الله التوفيق والسداد.
الجورب هو:
قال الليث: الجورب لفافة الرجل. تهذيب اللغة (11/ 38)
وقال أبو بكر بن العربي: الجورب: غشاءان للقدم من صوف يتخذ للدفء. تاج العروس (2/ 156)
الجورب: بفتح الجيم والراء، لفظ معرب، ج جوارب، ما يلبس من القماش ونحوه بالقدمين إلى ما فوق الكعبين. معجم لغة الفقهاء (ص: 169)
الصوف:
صوف: قال الليث: الصوف للضأن وما أشبهه. تهذيب اللغة (12/ 173)
ص وف: (الصوف) للشاة. مختار الصحاح (ص: 180)
- أقوال المذاهب الفقهية الأربعة:
أولاً مذهب الحنفية:
- قال في تحفة الفقهاء (1/ 86)
وأما المسح على الجوربين فهو على أقسام ثلاثة إن كانا مجلدين أو منعلين جاز المسح بإجماع بين أصحابنا.
وأما إذا كانا غير منعلين فإن كانا رقيقين بحيث يرى ما تحتهما لا يجوز المسح عليهما.
وإن كانا ثخينيين قال أبو حنيفة لا يجوز المسح عليهما وقال أبو يوسف ومحمد يجوز.
وروي عن أبي حنيفة أنه رجع إلى قولهما في آخر عمره
- قال في بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (1/ 10)
وأما المسح على الجوربين، فإن كانا مجلدين، أو منعلين، يجزيه بلا خلاف عند أصحابنا، وإن لم يكونا مجلدين، ولا منعلين، فإن كانا رقيقين يشفان الماء، لا يجوز المسح عليهما بالإجماع، وإن كانا ثخينين لا يجوز عند أبي حنيفة وعند أبي يوسف، ومحمد يجوز.
وروي عن أبي حنيفة أنه رجع إلى قولهما في آخر عمره، وذلك أنه مسح على جوربيه في مرضه،
- قال في العناية شرح الهداية (1/ 156)
قال (ولا يجوز المسح على الجوربين عند أبي حنيفة) المسح على الجوربين على ثلاثة أوجه: في وجه يجوز بالاتفاق وهو ما إذا كانا ثخينين منعلين، وفي وجه لا يجوز بالاتفاق وهو ألا يكونا ثخينين ولا منعلين، وفي وجه لا يجوز عند أبي حنيفة خلافا لصاحبيه وهو أن يكونا ثخينين غير منعلين.
يقال جورب منعل ومنعل إذا وضع على أسفله جلدة كالنعل للقدم والمجلد هو الذي وضع الجلد أعلاه وأسفله.
وقوله: (لا يشفان) تأكيد للثخانة، من شف الثوب: إذا رق حتى رأيت ما وراءه من باب ضرب، لهما حديث أبي موسى الأشعري «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح على الجوربين» ؛ ولأنه يمكنه المشي فيه إذا كان ثخينا بحيث يستمسك على الساق من غير الربط فأشبه الخف فيلحق به. ..... وعن أبي حنيفة أنه مسح على جوربيه في مرضه ثم قال لعواده: فعلت ما كنت أمنع الناس عنه. فاستدلوا به على رجوعه إلى قولهما، قال المصنف: وعليه الفتوى.
- قال في بداية المبتدي (ص: 8)
ولا يجوز المسح على الجوربين عند أبي حنيفة إلا أن يكونا مجلدين أو منعلين وقالا يجوز إذا كانا ثخينين لا يشفان.
فمذهب الحنفية في حكم المسح على الجوربين هو التفصيل على النحو التالي:
- إن كان الجورب ملبسين بالجلد أو يكون الجلد أسفل الجورب فيجوز المسح عليهما بإجماع الحنفية.
- وأما إن كان الجورب ليس من الجلد ولم يبطن أسفله بالجلد ولكنه ثخين غير شفاف فيجوز المسح عليه، وعليه الفتوى.
- وأما إن كان الجورب شفاف غير ثخين يرى ما وراءه فلا يجوز المسح عليه.
ثانياً مذهب المالكية:
- قال في مواهب الجليل في شرح مختصر خليل (1/ 318):
(مسح جورب جلد ظاهره وباطنه) قوله مسح هو نائب فاعل رخص قال في التوضيح الجورب ما كان على شكل الخف من كتان، أو قطن، أو غير ذلك وقوله: جلد ظاهره وباطنه " أي من فوق القدم وتحتها، ولا يريد بالباطن ما يلي الرجل.
- قال في التاج والإكليل لمختصر خليل (1/ 467)
ابن الحاجب: لا يمسح على الجورب إلا أن يكون من فوقه ومن تحته جلد.
فمذهب المالكية في حكم المسح على الجورب هو الجواز بشرط يكون من جلد فوقه وتحته.
- ثالثاً مذهب الشافعية:
- قال في الحاوي الكبير (1/ 364)
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولا يمسح على الجوربين إلا أن يكون الجوربان مجلدي القدمين إلى الكعبين حتى يقوما مقام الخفين".
قال الماوردي: اعلم أن الجورب على ضربين:
أحدهما: أن يكون مجلد القدم فيجوز المسح عليه ....
والضرب الثاني: أن يكون الجورب غير مجلد القدم فهو على ضربين:
أحدهما: أن يكون الجورب غير منعل، فلا يجوز له المسح عليه.
والضرب الثاني: أن يكون منعل الأسفل فهذا على ضربين:
أحدهما: أن يكون مما يشف ويصل بلل المسح عليه إلى القدم، فلا يجوز المسح عليه.
والثاني: أن يكون مما لا يشف ويمنع صفاقه من وصول بلل المسح إلى قدميه، فقد اختلف أصحابنا في جواز المسح عليه على وجهين:
أحدهما: لا يجوز وهو رواية المزني، والثاني: يجوز، وهي رواية الربيع.
- قال في المجموع شرح المهذب (1/ 499)
مذاهب العلماء في الجورب قد ذكرنا أن الصحيح من مذهبنا أن الجورب إن كان صفيقا يمكن متابعة المشي عليه جاز المسح عليه وإلا فلا .....
* وحكى أصحابنا عن عمر وعلي رضي الله عنهما جواز المسح على الجورب وإن كان رقيقا، وحكوه عن أبي يوسف ومحمد واسحاق وداود، وعن أبي حنيفة المنع مطلقا، وعنه أنه رجع إلى الإباحة.
- قال في البيان في مذهب الإمام الشافعي (1/ 156)
قال أصحابنا: والجوارب على ضربين:
فـ[الأول] : منه ما يمكن متابعة المشي عليه، بأن يكون ساترًا لمحل الفرض صفيقًا، ويكون له نعل، فيجوز المسح عليه....
و [الثاني] : إن كان الجورب لا يمكن متابعة المشي عليه، مثل: أن لا يكون منعل الأسفل، أو كان منعلا، لكنه من خرق رقيقة، بحيث إذا مشى فيه تخرق، لم يجز المسح عليه هذا مذهبنا... .
فمذهب الشافعية في حكم المسح على الجورب هو الجواز؛ بشرط أن يكون من جلد من بداية القدم إلى الكعبين، وأما ما يكون له نعل من جلد في اسفله، وثخين لا يصل بلل الماء عند المسح عليه، فعلى وجهين الجواز وعدم الجواز ، وأما الذي ليس له نعل من جلد لا يجوز المسح عليه.
- قال في المغني لابن قدامة (1/ 215)
(وكذلك الجورب الصفيق الذي لا يسقط إذا مشى فيه) إنما يجوز المسح على الجورب بالشرطين اللذين ذكرناهما في الخف، أحدهما أن يكون صفيقا، لا يبدو منه شيء من القدم. الثاني أن يمكن متابعة المشي فيه..... وقد سئل أحمد عن جورب الخرق، يمسح عليه؟ فكره الخرق. ولعل أحمد كرهها؛ لأن الغالب عليها الخفة، وأنها لا تثبت بأنفسها. فإن كانت مثل جورب الصوف في الصفاقة والثبوت، فلا فرق.... (وإن كان يثبت بالنعل مسح، فإذا خلع النعل انتقضت الطهارة) . يعني أن الجورب إذا لم يثبت بنفسه، وثبت بلبس النعل، أبيح المسح عليه، وتنتقض الطهارة بخلع النعل؛ لأن ثبوت الجورب أحد شرطي جواز المسح، وإنما حصل بلبس النعل، فإذا خلعها زال الشرط، فبطلت الطهارة، كما لو ظهر القدم.
- قال في شرح الزركشي على مختصر الخرقي (1/ 401)
إذا كان الجورب لا يثبت إلا بالنعل جاز له المسح، لأن الشرط الثبوت وقد وجد... ومتى خلع [النعل] انتقضت الطهارة، لزوال الشرط، والأولى أن يمسح على الجورب والنعل، كما هو ظاهر الحديث.
- قال في المبدع في شرح المقنع (1/ 113)
واقتضى كلامه جواز المسح على جورب الخرق، وهو أشهر، وعنه: لا، وجزم بها في " التلخيص "، فإن ثبت بفعل متصل أو منفصل مسحهما في قول القاضي.
- قال في الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي (1/ 179):
فعلى المذهب، لو ثبت الجوربان بالنعلين جاز المسح عليهما ما لم يخلع النعلين. وهذا المذهب، وعليه الأصحاب وقطعوا به، قال الزركشي: وقد يتخرج المنع منه. انتهى.
فمذهب الحنابلة في حكم المسح على الجوربين هو الجواز بشروط:
- أن يكون صفيقا أي ثخيناً.
- وأن يمكن المشي بهما عرفا.
- أن يثبت بنفسه أو بنعل، ويكون المسح على النعل والخف مع بعضهما بدون نزع النعل؛ لكي لا تنتقض الطهارة بنزع النعل.
قال أبو داود: ومسح على الجوربين علي بن أبي طالب، وابن مسعود، والبراء بن عازب، وأنس بن مالك، وأبو أمامة، وسهل بن سعد، وعمرو بن حريث وروي ذلك، عن عمر بن الخطاب، وابن عباس. سنن أبي داود (1/ 41)
- تنبيه:
- قوله في تحفة الفقهاء (1/ 86)
وأما إذا كانا غير منعلين فإن كانا رقيقين بحيث يرى ما تحتهما لا يجوز المسح عليهما.
- وقوله في بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (1/ 10)
كانا رقيقين يشفان الماء، لا يجوز المسح عليهما بالإجماع، وإن كانا ثخينين لا يجوز عند أبي حنيفة وعند أبي يوسف، ومحمد يجوز.
- وقوله في الحاوي الكبير (1/ 364)
أن يكون مما لا يشف ويمنع صفاقه من وصول بلل المسح إلى قدميه .
- وقوله في المغني لابن قدامة (1/ 215)
لأن الغالب عليها الخفة، وأنها لا تثبت بأنفسها
يعني أن الجورب إذا لم يثبت بنفسه، وثبت بلبس النعل، أبيح المسح عليه، وتنتقض الطهارة بخلع النعل
- قوله في المجموع شرح المهذب (1/ 499)
وحكى أصحابنا عن عمر وعلي رضي الله عنهما جواز المسح على الجورب وإن كان رقيقا وحكوه عن أبي يوسف ومحمد واسحق وداود
- جميع هذه المنقولات توضح ضوابط الجورب الذي يجوز المسح عليه وهي:
- لا يرى ما تحتهما من القدم.
- لا يشفان الماء بحيث لا يصل بلل الماء عند المسح إلى القدم.
- ألا تكون خفيفة بل ثخينة.
- أن تثبت بنفسها أو تثبت بنعل ولكن عند المسح يمسح على الجورب والنعل مع بعضهما علما بأنه متى نزع النعل لا يجوز المسح على الجورب ولو أعاد لبس النعل.
جميع هذه الضوابط توضح أنهم يتكلمون على الجورب الذي يكون من قماش؛ لأن جورب الصوف والجلد لا تدخل فيه هذه الضوابط؛ لثقله وعدم وصول بلل الماء للقدم ولا ترى القدم من خلاله.
- الخلاصة:
- جواز المسح على الجوربين بشرط أن يكونا ملبس كامله من جلد وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة.
- جواز المسح على الجوربين بشرط أن يكون منعل أسفله من جلد وهو مذهب الحنفية والشافعية في وجه والحنابلة.
- جواز المسح على الجورب بشروط أن يكون ثخين لا يصل بلل ماء المسح للقدم وأن يثبت بنفسه أو بنعل وهو مذهب الحنفية والحنابلة.
- أدلة المسألة:
- عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «توضأ ومسح على الجوربين والنعلين». رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي.
وجه الدلالة:
جواز المسح على الجوربين.
مناقشة الدليل:
وذاك حديث منكر، ضعفه سفيان الثوري، وعبد الرحمن بن مهدي وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن المديني ومسلم بن الحجاج. قاله في معرفة السنن والآثار (2/ 122)
- حديث أبي موسى الأشعري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح على الجوربين. رواه أبو داود والنسائي.
وجه الدلالة:
جواز المسح على الجوربين.
مناقشة الدليل:
قال الضحاك بن عبد الرحمن: لم يثبت سماعه من أبي موسى، وعيسى بن سنان ضعيف لا يحتج به وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس بن يعقوب، ثنا العباس بن محمد قال: سمعت يحيى بن معين يقول: عيسى بن سنان ضعيف. السنن الكبرى للبيهقي (1/ 427)
ذكرت في هذا المبحث أقوال المذاهب الفقهية الأربعة والأدلة مع وجه الدلالة والمناقشة بقدر ما تيسر.
فعلى كل من ينتمي إلى إقليم يتبع لمذهب فقهي معين أن يأخذ بمذهبه، وأما من يعمل بعمل المحدثين باشتراط أن يكون له الحق في النظر بين الأدلة مع الترجيح كما هو منصوص في كتب أصول الفقه فله ذلك.
والله أعلم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا