اتحاف العابد في حكم التسول في المساجد
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
من الملاحظ كثرة الذين يسألون الصدقة في المساجد بعد الصلوات المفروضة، ولا يذهبون إلى الجمعيات الخيرة والمؤسسات الرسمية، فكثر الاحتيال والنصب على الناس عن طريق اللعب على العواطف.
ونحن في هذا المبحث اللطيف نتكلم عن حكم سؤال الصدقة في المساجد بين فقهاء المذاهب الأربعة بحسب ما تيسر جمعة وذكره.
أولاً مذهب الحنفية:
1- قال في تحفة الملوك (ص: 274)
السؤال في المسجد والسائل في المسجد قيل يحرم إعطاؤه والمختار أنه إذا كان لا يتخطى رقاب الناس ولا يمر بين يدي المصلين ولا يسأل الناس إلحافا يباح إعطاؤه وإن كان يفعل واحدة من هذه الثلاثة يحرم إعطاؤه.
2- قال في المحيط البرهاني في الفقه النعماني (5/ 402)
ولا ينبغي أن يتصدق على السائل في المسجد الجامع؛ لأنه إعانة لهم على أذى الناس، وقد قال خلف بن أيوب: لو كنت قاضياً لم أقبل شهادة من يتصدق في المسجد الجامع.
فمذهب الحنفية في حكم السائل في المسجد للصدقة هو تحريم اعطاؤه إذا تخطى الرقاب أو مر بين يدي المصلين وإما إن لم يفعل منها شيئا فيباح اعطاؤه.
ثانياً مذهب المالكية:
1- قال في الذخيرة للقرافي (13/ 348):
قال مالك وينهي السؤال عن السؤال في المسجد والصدقة في المسجد غير محرمة.
فمذهب المالكية في حكم سائل الصدقة في المسجد هو التحريم ، ويباح على المتصدق الصدقة في المسجد.
ثالثاً مذهب الشافعية:
1- قال في تحفة المحتاج في شرح المنهاج وحواشي الشرواني والعبادي (7/ 179)
(قوله: وذهب الحليمي إلخ) في فتاوى السيوطي في كتاب الزكاة السؤال في المسجد مكروه كراهة تنزيه، وإعطاء السائل فيه قربة وليس بمكروه فضلا عن أن يكون حراما هذا هو المنقول الذي دلت عليه الأحاديث.
2- قال في نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج (6/ 174)
وقول سم السؤال في المسجد ومثله التعرض، ومنه ما جرت به العادة من القراءة في المساجد في أوقات الصلوات ليتصدق عليهم وشمل ذلك أيضا ما لو كان السائل في المسجد يسأل لغيره فيكره له ذلك هذا كله حيث لم تدع إليه ضرورة وإلا انتفت الكراهة.
3- قال في المجموع شرح المهذب (2/ 176)
* (فرع) لا بأس بأن يعطي السائل في المسجد شيئا لحديث عبد الرحمن ابن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (هل منكم أحد أطعم اليوم مسكينا فقال أبو بكر دخلت المسجد فإذا أنا بسائل يسأل فوجدت كسرة خبز في يد عبد الرحمن فأخذتها فدفعتها إليه) رواه أبو داود بإسناد جيد
فمذهب الشافعية في حكم سائل الصدقة في المسجد هو الكراهة التنزيهية ، ويباح إعطاء السائل في المسجد.
رابعاً مذهب الحنابلة:
1- قال في كشاف القناع عن متن الإقناع (2/ 371)
(ويكره السؤال) أي: سؤال الصدقة في المسجد (والتصدق عليه فيه)؛ لأنه إعانة على مكروه و (لا) يكره التصدق (على غير السائل) ولا على من سأل له الخطيب وتقدم في الجمعة وروى البيهقي في المناقب عن علي بن محمد بن بدر قال: " صليت يوم الجمعة فإذا أحمد بن حنبل يقرب مني فقام سائل فسأله فأعطاه أحمد قطعة فلما فرغوا من الصلاة قام رجل إلى ذلك السائل وقال: أعطني تلك القطعة فأبى فقال: أعطني وأعطيك درهما فلم يفعل فما زال يزيده حتى بلغ خمسين درهما فقال: لا أفعل فإني أرجو من بركة هذه القطعة ما ترجو أنت.
2- قال في مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى (2/ 263)
ويكره السؤال والتصدق عليه فيه، لا على غير سائل، ولا على من سأل له الخطيب.
فمذهب الحنابلة في حكم سائل الصدقة في المسجد هو الكراهة التنزيهية ، وكره كذلك إعطاء السائل لأنه اعانة على المكروه، أما الصدقة على غير السائل في المسجد فجائز .
أدلة المانعين من السؤال في المسجد:
قال في المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود (9/ 321):
وأصل ذلك ما تقدم للمصنف في "باب كراهية إنشاد الضالة في المسجد".
1- من حديث أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم يقول "من سمع رجلًا ينشد ضالة في المسجد فليقل لا أداها الله إليك، فإن المساجد لم تبن لهذا".
2- أخرج الترمذيّ بإسناد صحيح، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إذا رأيتم من يبيع، أو يبتاع في المسجد، فقولوا: لا أربح اللَّه تجارتك، وإذا رأيتم من يَنْشُد فيه ضالّةً، فقولوا: لا رد اللَّه عليك".
وجه الدلالة:
قياس سؤال الصدقة في المسجد بسؤال الضالة في المسجد.
مناقشة الدليل:
لا يوجد قياس بينها وذلك للحديث الذي فيه تصدق أبو بكر الصديق على السائل في المسجد.
أدلة المجيزين للسؤال في المسجد:
1- عن عبد الرحمن بن أبي بكر، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أفيكم من أطعم اليوم مسكينا؟)) قال أبو بكر: دخلت المسجد فإذا أنا بسائل يسأل، فوجدت كسرة خبز في يد عبد الرحمن، فأخذتها فدفعتها إليه.
وجه الدلالة:
عدم انكار النبي صلى الله عليه وسلم على وجود سائل في المسجد.
الثمر المستطاب في فقه السنة والكتاب (2/ 830)
قال السيوطي:
(والحديث الذي أورده فيه دليل للأمرين معا: أن الصدقة عليه ليست مكروهة وأن السؤال في المسجد ليس بمحرم لأنه صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك بإخبار الصديق ولم ينكره ولو كان حراما لم يقر عليه بل كان يمنع السائل من العود إلى السؤال في المسجد. وبذلك يعرف أن النهي عن السؤال في المسجد - إن ثبت - محمول على الكراهة والتنزيه وهذا صارف له عن الحرمة ....... وإنما قلنا بالكراهة أخذا من حديث النهي عن نشد الضالة في المسجد وقوله: (إن المساجد لم تبن لهذا)
مناقشة الدليل:
معارضته لحديث النهي عن السؤال عن الضالة في المسجد.
تدور المسألة على قولين هما الأول تحريم سؤال الصدقة في المسجد وهو قول المالكية ومذهب الحنفية بالتحريم إن كان فيه أذية للمصلين فإن كان فيه أذيه فيحرم، والقول الثاني جوازها سواء مع الكراهة أو دونها وهو مذهب الشافعية والحنابلة.
ومسألة إعطاء السائل الصدقة في المسجد كذلك الحكم بجوازه وهو قول الحنفية والمالكية والشافعية والقول بالكراهية وهو مذهب الحنابلة.
ذكرت في هذا المبحث أقوال المذاهب الفقهية الأربعة وأدلتهم ووجه الدلالة ومناقشة الأدلة بقدر ما تيسر، فكل من ينتمي إلى أقليم معين فيأخذ المذهب المتبع في اقليمه وخاصة أن هذا البحث ليس خاصا بأقليم معين، وأما من يعمل بعمل المحدثين وله الحق في النظر والترجيح بين الأدلة فله ذلك.
والله أعلم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم